
أخرجت من حقيبتها الزهرية اللون نظارتها الطبية، وعلى طاولة خشبية قديمة وزعت أوراقها وأقلامها وحبرها وبدأت تنمق أبياتا للحلاج شاعرها المفضل يقول فيها “قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يرى للناظرينا”.
تنساب أحرف الخط العربي وتتمايل في تناسق مع حركات يدي مريم السكوجي الناعمتين مكونة لوحة فنية قوامها الجمال والدقة والإبداع.
تميل الخطاطة الشابة إلى استعمال الأدوات القديمة من أقلام القصب والحبر والأوراق والتي غالبا ما تصنعها بنفسها لأن “السوق التونسية لا توفر أدوات عالية الجودة”.

تعامل أقلامها كأبنائها، تعلم جيدا بأي قلم ستكتب هذا الحرف أو ذاك، لذلك تجويد الأقلام وصقل الأوراق بمنزلة عالية لديها، وفي ذلك يقول قبلة الكتاب الخطاط العراقي ياقوت المستعصمي “إن جودت قلمك جودت خطك، وإن أهملت قلمك أهملت خطك”.
أسرار وخفايا
عشق هذه الفتاة الشابة لفن الخط العربي لازمها منذ الصغر، فكانت تقوم منذ نعومة أظفارها بما تسميه دورانا داخليا تبحث فيه عن فن يستهويها وتجد فيه ضالتها ويكون مرآة عاكسة لشخصيتها، فجربت الموسيقى والرقص والرسم، ولكن عشق الخط العربي تغلب في النهاية.
تعتبر مريم السكوحي -التي تخصصت في مجال الصحافة- أن انتماءها وهويتها وشخصيتها جميعها يتلخص في الخط العربي، وأنها ما زالت في بداية طريقها في اكتشاف أسراره وخفاياه.

انطلاقتها كانت عصامية اقتصرت على البحث والمشاهدة عبر الإنترنت ومحاولة تقليد أشهر الخطاطين في العالم العربي، لكن مريم (27 سنة) تيقنت أن الأمر ليس بالسهولة التي تصورتها.
منذ خمس سنوات بدأ اهتمامها يتركز على البحث والقراءة والتكوين الأكاديمي ومتابعة كل ما يهم الخط العربي، فالتحقت بالمركز الوطني لفنون الخط بتونس العاصمة وتحصلت على إجازة في هذا المجال.
عالم مشحون بالجمال
تكن مريم احتراما كبيرا لهذا الفن، كيف لا وهو الذي خط به الكتاب المقدس “القران الكريم”، وهي متعلقة جدا بالحقبة القديمة التي ظهر فيها وبالخطاطين الكبار الذين أفنوا أعمارهم في وضع قواعده لتتمكن أجيال اليوم من تعلمه.
عالم من الأسرار يتسم بجمالية كبرى وميزان وقواعد مضبوطة تكون عالما كبيرا سحر مريم الفتاة، لأنه ببساطة -كما تصفه- “فن يلامس العاطفة والوجدان ولا يمكن حصره على جنس معين، هو عالم مشحون بالجمال يخاطب الروح مباشرة دون استئذان”.
ككل علاقة بين عاشقين تمر بفترات مد وجزر، كذلك بالنسبة لمريم والخط العربي تبتعد عن الكتابة عندما تمر بفترات نفسية صعبة حتى تحافظ على متانة عشقها، لكنها وكما تقول “تملأ عينيها بمشاهدة اللوحات وتستنشق رائحة عطر حبرها القديم حتى لا تبتعد كثيرا”.
لتستعيد روحها التائهة، تبحث مريم عنها وعن عشقها للخط العربي بين أزقة المدينة العربية (العتيقة) بتونس العاصمة وبين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المخطوطة على جدران المساجد بشتى أنواع الخطوط العربية من بينها الخط الكوفي والقيرواني.
تفنن وتجويد
خلال الفتوحات الإسلامية الأولى لإفريقية (تونس) وتأسيس مدينة القيروان (50 هجري/670 ميلادي)، كتبت المصاحف وغيرها من الكتب والسجلات بأنواع من الخطوط السائدة حينها في المشرق الإسلامي وأشهرها الخط الحجازي والخط الكوفي البسيط.
ومع استقرار الدولة في القيروان إلى حدود القرن الخامس الهجري/ الـ11 الميلادي، مال الخطاطون إلى التفنن في تجويد أشكال الحروف وفق أساليب محلية بابتكار محسنات ذوقية جديدة، من ذلك مصحف الحاضنة للخطاط الكبير علي الوراق سنة 410 هجري/ 1020 ميلادي.
وفي العهد العثماني أصبح للخطوط المشرقية حضور أقوى ويتجلى ذلك خاصة في المعالم التاريخية في تونس العاصمة، وبقي التفاعل قائما بين الخطوط المشرقية والمغربية المحلية طيلة الحقبتين المرادية والحسينية.
غايات غير ربحية
شاركت مريم في عديد الملتقيات العربية المهتمة بمجال الخط العربي في المغرب ومثلت تونس كمحاضرة وباحثة في هذا الفن، لكنها رغم ذلك لا تعتبر نفسها محترفة، فبالنسبة لها الحرف الواحد يحتاج سنوات لإتقانه.
لا تعتمد الفتاة الشابة الخط العربي مورد رزق، كما أن غايتها منه ليست ربحية بقدر ما هي تقريبه من المواطنين وأن يصبح عادة يومية لديهم، وإخراجه من الصورة النمطية التي رسمت له باعتباره تراثا فحسب.
تبدو مريم متفائلة بالاهتمام الذي يوليه اليوم شباب تونس للخط العربي حتى وإن كان بسيطا، فهي تسعد لمشاهدتهم يكتبون بالخط العربي على الجدران وعلى الأثاث وحتى اللباس، وهو شعور “يبعث فيها نوعا من الأمل”.