
ما يقارب قرناً من الزمن وجمعية الاتحاد النسائي العربي في القدس مستمرة في عطائها، بالرغم من كل العقبات؛ شح التمويل والدعم المغذي لاستمراريتها وعطائها ومن محاولات طمسها وتهويهدها، هذه الجمعية التي تُعد من أقدم الجمعيات النسائية في فلسطين، فقد تأسست عام 1928 ليكون لها دورٌ أساسيٌّ وطليعيٌّ في كل مراحل النضال الوطني.
رئيسة جمعية الاتحاد النسائي العربي بالقدس هداية البديري تتحدث لـ”القدس” عن الجمعية من البداية حتى اليوم، وتقول عن البدايات: بمبادرة عددٍ من السيدات المقدسيات، وفي مقدمتهن المرحومة زليخة الشهابي، تأسست الجمعية، وقامت بدورٍ مهمٍّ ونشاطات متعددة، أبرزها مدّ يد العون للمجاهدين والثوار عن طريق العناية بالمناضلين الجرحى، واحتضان ورعاية أبناء الشهداء ومساعدة الأُسر والعائلات الفقيرة والمتضررة جراء الأحداث الجسيمة التي مرت بها البلاد، خاصةً عام ١٩٤٨، والمشاركة في النشاطات الجماهيرية من مظاهرات وإضرابات، وكان هدفها الأساسي التعريف بالقضية الفلسطينية من خلال عقد المؤتمرات والمشاركة فيها في الوطن والدول العربية لشرح أبعاد القضية الفلسطينية، وتحفيز النساء العربيات على مد يد العون للشعب الفلسطيني، والتحذير من الأخطار الجسيمة التي كانت تحدق بأبناء شعبنا.
مقابلة المندوب السامي للاحتجاج على بطش القوات البريطانية
وتتابع هداية البديري: تبلورت الفكرة في العام 1928 حين بادرت بها المرحومة زليخة الشهابي، ومن معها بخطوةٍ احتجاجيةٍ لمقابلة المندوب السامي احتجاجاً على المجازر التي تقترفها قواته بحق أبناء فلسطين، والمطالبة بإيقافها، فمنعهنّ الحرس من مقابلته، وعندها قمن برفع الأغطية عن وجوههنّ كخطوة رافضة، فسُمِح لهن بمقابلة المندوب السامي البريطاني وعدد من المسؤولين، وسجّلن احتجاجهن على سياسة البطش من قوات الاحتلال البريطاني، وبعد هذا الإنجاز بدأن بممارسة العمل الجماعي، ومن هنا كانت الانطلاقة في تأسيس الاتحاد النسائي برئاسة زليخة الشهابي لمتابعة شؤون القدس، وبخاصة المرأة ومساعدة الثوار الذين أخذت أعداد الجرحى منهم تتزايد، ما تطلَّب مضاعفة الجهود الإسعافية والتمريضية، للحفاظ على حياة الجرحى والتخفيف من آلامهم.
وتواصل حديثها عن أعمال الجمعية: بدأت الجمعية تتوسع، وهدفها الأساسي تعريف العالم بخطورة وأهمية ما يحدث على الأرض الفلسطينية، وعام 1950 استطاعت أن تؤمن مقراً رسمياً وثابتاً لها تنطلق منه، ومع توالي النكبات أنشأت لجنة إسعاف تنزل إلى الميدان لإسعاف الجرحى، ومستوصفاً لمعالجة المعوزين والتطعيم ضد الأمراض السارية والمعدية، كما أسست مستوصفاً طبيّاً للعناية بالحوامل، ومركزاً لرعاية الأطفال أطلقت علية “الأُمومة والطفولة”، إضافة إلى مساهمتها بتأمين المأوى للأيتام فدفع الاتحاد نفقات تعليم عشرات الأيتام في دار الأيتام الإسلامية، إضافة إلى إعداد وجبات طعام للمناضلين.
وتتابع وفي ملامحها يرتسم الأمل: بعد انتهاء الحرب عام 1948، وإثر ما تعرضت له الأراضي الفلسطينية والشعب الفلسطيني كأثرٍ مباشرٍ للنكبة، فقد حرصت الجمعية على أن تُسهم بدورها في خدمة أبناء الشعب الفلسطيني للتخفيف من آثار النكبة، حيث نشطت مع المؤسسات الأُخرى من أجل نصرة المستضعفين ومساعدة المهجرين وتقديم ما أمكن لهم من عون ومساعدة في إطار العمل الخيري والاجتماعي والإنساني، ولم تدع مجالاً اجتماعياً خيرياً إلا وسلكته.
وتواصل البديري: وأسهمت بعد نكبة 1948 بالنشاطات السياسية، وبخاصة دعم ثورة الجزائر وجمع التبرعات، وتركز معظم الجهد في معالجة آثار النكبة في العمل الاجتماعي والخيري، وذلك في مقرها في باب الساهرة، حيث تم في عام 1950 افتتاح روضة أطفال ومركز لرعاية الأطفال وتقديم وجبات غذائية مجانية للأطفال، وكذلك مركز للعناية بالحوامل ونشاطات أُخرى، كما تمكنت الجمعية من بناء مقر مستقل لها عام 1965، واستمرت في نشاطاتها المتعددة حتى دخول القوات الصهيونية إلى القدس في 5 حزيران 1967، حيث قامت بتطوير روضة الأطفال إلى مدرسة شاملة تتألف من 14 صفاً من الروضة حتى الثانوي، وأقامت مركزاً لتعليم الفتيات التطريز والخياطة والحياكة، كما أنشأت الجمعية داراً للمسنين سُميت “دار الأمان” ضمت في مرحلتها الأُولى عدداً من الغرف، يوفر فيها المأوى والخدمات الأولية، ولكن توقفت عن العمل لشح الموارد المالية، وكذلك قدمت المساعدات المالية للمحتاجات من المتفوقات لإكمال دراستهن الجامعية.
العمل الإنتاجي..
تتحدث البديري لـ”القدس” وتردف وهي سعيدة بالحديث عن هذا الصرح الوطني: لم تعتمد الجمعية على التبرعات فحسب، بل على العمل الإنتاجي أيضاً، وللمثال ما قام به الاتحاد منذ البدايات، إذ اشترى قطعاً من الأراضي المزروعة بأشجار الفاكهة وكروم العنب، وقدمها لعائلات الشهداء كي تقوم برعاية الأرض وتستفيد من منتجاتها الزراعية، وكذلك فعل مع النساء، فقام بتعليمهن الخياطة والحياكة كي يصبح لهن مورد رزق، أما القرار الأشهر فكان تعليم الفتيات صناعة الأزهار، وللمرة الأُولى ابتدأت الصبايا تنتج أياديهن الأزهار الاصطناعية، وكانت زليخة الشهابي تقوم معهن بهذا العمل برغبة وسعادة، كما تقوم معهن بصنع أنواع من “الكريمات” للتجميل، وقد درج الاتحاد على إقامة أسواق خيرية لبيع المنتجات على أنواعها وصرف الريع على المشاريع الخيرية تم فتح مركز خياطة ومركز نسيج تعليمي، وتم توسيع المراكز الصحية الخاصة بالجمعية، وأسمتها السيدة زليخة الشهابي “مراكز الأمومة والطفولة”، حيث كانت الفتاة الحامل تلتحق في هذا المركز من لحظة الحمل حتى الولادة، الذي كان يضم قسماً لتطعيم الأطفال، لكن تم إغلاقة عام 1967 لأنّ قوات الاحتلال أخذت على عاتقها الصحة.
وتتابع البديري مواصلةً حديثها: في العام 1965 طلبت السيدة زليخة الشهابي من الملك حسين العمل على مساعدة الاتحاد لبناء مقر للجمعية، فتم ذلك وافتتحته الملكة زين في العام 1966، وكانت عبارة عن 3 طوابق، وكان الطموح أن يضم المسنين، إضافة إلى تعليم المهن المختلفة. وقُبيل النكسة في العام 1967 تم تجهيز المكان للمسنين، لكن شاءت الأقدار أن حصلت النكسة فأصبحت الحاجة ملحّة لمقر لتعليم الفتيات على وجه الخصوص، فتدخل المرحوم حسني الأشهب، وساعد الاتحاد بفتح مدرسة ثانوية في المقر والمقرات المجاورة، إذ إنّ الجمعية كانت حصلت على ترخيص أُردني في ذلك الوقت.
خدمات للأُسر المقدسية
وعن الواقع الحالي للجمعية، تتحدث البديري لـ”القدس”، وتقول: واقعنا يتمثل بتلك الخدمات التي نقدمها للأُسر المقدسية، التي في معظمها خدمات تعليمية وتأهيلية، وتتمثل في: قسم الحضانة، وقسم الروضة، ومركز تأهيل الفتيات الذي يضم أعمال الحياكة بالصوف وتصميم الازياد، إضافةً إلى قسم التجميل، إلى جانب ما تقوم به الجمعية من أنشطة أُخرى، بين الحين والآخر، كالإفطارات الخيرية والاحتفالات في المناسبات الدينيّة والوطنيّة، إلا أن جائحة كورونا دفعتنا إلى تجميد معظم النشاطات، وهنا كان الألم واضحاً وجلياً على ملامح البديري وهي تشير إلى أن الجائحة الأكبر التي تعاني منها الجمعية هي عدم وجود أيّ دعم مالي لتقوم هذه الجمعية بدورها من دفع رواتب موظفيها وإعادتهم أو تقديم المساعدة للمحتاجين الذين يطرقون بابها.
وإثر ما تعرضت له الأراضي الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فقد حرصت الجمعية على أن تُسهم بدورها في خدمة أبناء الشعب الفلسطيني للتخفيف من آثار النكبة، إذ نشطت مع المؤسسات الأُخرى من أجل نصرة المستضعفين ومساعدة المهجرين، وتقديم ما أمكن لهم من عون ومساعدة في إطار العمل الخيري والاجتماعي والإنساني التي لم يجعل الاحتلال يتوانى عن اقتحام مقرها مرات عدة، والعبث بمحتوياتها ومصادرة ملفاتها التي لم تستطع الجمعية استرجاعها في محاولة متغطرسة منه لتهويدها، ومع ذلك لم تدع مجالاً اجتماعياً خيرياً إلا وسلكته، فأقل واجب علينا هو مد يد العون جميعاً لإبقاء هذا الصرح شامخاً وثابتاً ومعطاء، والتعاون سوياً على تقديم كل أنواع الدعم والمساعدات له ليعود كما كان جبلاً صامداً لخدمة أبناء الشعب الفلسطيني.