السبت , 21 يونيو 2025

فيرجينا بوستريل تكتب: «اغتيال الوظائف» وتحرر النساء

وفقاً لما يفيد به كثير من الأمهات اللاتي تركن وظائفَهن لمواجهة تداعيات جائحة فيروس «كورونا» على التعليم من بُعد، فإنَّ العمل المنزلي المجاني ليس مجانياً في حقيقة الأمر، لكنَّه دائماً ما يستلزم تكاليف الفرص البديلة لما كنت سوف تفعله بخلاف ذلك.
غير أنَّ الأعمال المنزلية للنساء لم تكن تلقى كثيراً من الاهتمام في تاريخ التقانات الموفرة للعمالة؛ نظراً لأنَّ كثيراً من هذه الأعمال لا يحظى بأي تعويضات نقدية مباشرة. وجاء في مقالة منشورة عام 1870: «نعلم جميعاً مقولة جداتنا: وقت المرأة لا قيمة له»، حيث تتأسف على القليل من الجهود المبذولة في ابتكار الأشياء التي تخفف من الأعباء المنزلية عن كاهل النساء. وما زال يتعيَّن الاضطلاع بهذه الأعمال؛ سواء أكان ذلك من جانب ربات البيوت غير المتلقيات الأجور، أم من جانب الخدم الذي يحصلون على الأجور المنخفضة.
يعدُّ مارس (آذار) شهر تاريخ المرأة، وهو من الأوقات المناسبة لكي نتذكر أن تاريخ عمل المرأة يسلط الأضواء على التساؤلات الأوسع مجالاً التي تثيرها التقانات الموفرة للعمالة في الماضي والحاضر. وإذا ما نظرنا إلى تلك المخترعات من زاوية تجارب النساء، فإنَّ المخترعات الموصوفة بـ«اغتيال الوظائف» تبدو «محركات التحرير»؛ تلك الصفة التي كانت عنواناً لمقالة مؤثرة نُشرت في عام 2005 بواسطة خبراء الاقتصاد البارزين: جيريمي غرينوود، وأناث سيشادري، ومحمد يوروك أوغلو.
ومن أجل رفع إنتاجية النساء وفتح بوابات الطلب الجديدة على خدماتهن، وفرت لهن التقانات الموفرة للعمالة قدراً أكبر من التحكم في أوقاتهن، ومزيداً من الحرية في اختيار المهن المناسبة، مع القدرة على كسب المال المؤهل لصياغة وجه الحياة بصورة أفضل… كل ذلك بموازاة تحفيز التغيرات الاقتصادية التي عززت من مستويات المعيشة بشكل عام.
انتشرت تكنولوجيا طحن الحبوب في جميع أرجاء أوروبا خلال العصور الوسطى، وقد أحدثت ثورة في كيفية قضاء النساء أوقاتهن. ولتناول الحبوب، مثل القمح، كان يلزم أولاً نزع القشور عنها ثم تحويلها إلى طحين؛ الأمر الذي يعني قضاء الساعات الطويلة في سحق وطحن القمح. وبحلول أواخر تسعينات القرن الماضي، كانت النساء في المناطق الريفية والنائية من المكسيك ما زلن يعملن بهذه الأساليب التقليدية القديمة نفسها في إنتاج طحين الذرة. وتقدر المؤرخة راشيل لودان أنَّ الأمر يستغرق نحو 5 ساعات يومياً من الطحن، لإنتاج كمية من طحين الذرة تكفي لإطعام عائلة مكونة من 6 أفراد في اليوم الواحد.
وفَّرت المطاحن الآلية الأوقات للنساء في الاضطلاع بمهام وواجبات أخرى، ومن أبرزها الغزل. وهي وظيفة أقل صعوبة وإجهاداً من طحن الحبوب، وهي ليست أقل ضرورة من الطحن ولا تستغرق وقتاً طويلاً مثله. وكانت المرأة من العصور الوسطى التي تستخدم عجلة الغزل تقضي 110 ساعات لغزل ما يكفي من الصوف لصناعة سروال واحد.
تقول المؤرخة كونستانس بيرمان إنَّه بتوفير الوقت للنساء لإنتاج مزيد من الغزل، فتحت مطاحن الحبوب الباب أمام التجارة القائمة على الصوف، ثم أطلقت الثورة التجارية المعروفة في أواخر العصور الوسطى؛ الأمر الذي أسفر عن إنشاء مؤسسات مالية جديدة مع ظهور مراكز مزدهرة جديدة من شاكلة مدن أنتويرب، ولندن، وفلورنسا. وأضافت المؤرخة بيرمان تقول: «كان من الممكن في غياب هذا التغيير في أعمال المرأة ألا تقوم لهذه الصناعة قائمة في التاريخ كما حدث».
ظل الغزل هو العقبة الرئيسية على طريق إنتاج المنسوجات، تماماً كما لاحظ السيد آرثر يونغ، المهندس الزراعي ومؤلف كتب الرحلات الذي جاب أرجاء الشمال الإنجليزي في عام 1768. وكتب قائلاً: «لم يكن صناع الغزل يقفون ساكنين أبداً بسبب نقص العمل، فلقد كانت لديهم الرغبة الدائمة في ذلك. ولكن كان التعطيل ينال عمال النسيج في بعض الأحيان بسبب نقص المخزون من الغزل؛ إذ كان إمداد نَسّاج واحد يستلزم العمل من 20 غَزّالاً على الأقل وقتذاك».
ويقول المؤرخ الاقتصادي كريغ مولدرو إنَّ أكثر من مليون امرأة إنجليزية كنَّ يواصلن العمل في الغزل من أجل إمداد القوة العاملة المقدرة بـ4 ملايين بريطاني في تلك الأوقات. وكان عملهن يشكل أكبر تكلفة في إنتاج الأقمشة إلى جانب الألياف الخام؛ إذ كان إجمالي تكاليف الغزل يبلغ ضعف تكاليف النسيج. ومع ذلك، كانت أجور عمال الغزل متواضعة للغاية، وذلك لسبب بسيط؛ مفاده بأن إنتاج كمية وافرة من الغزل يستلزم قضاء ساعات طويلة. وقد غيرت ماكينات الغزل التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر، وأطلقت العنان للثورة الصناعية، من تلك الحسابات بالكلية. وعلى نحو مفاجئ، صار من الممكن الحصول على الغزل، الذي كان يستغرق الأوقات الطويلة، في غضون ساعات أو ربما دقائق معدودة.
قبل الحرب الأهلية، حصلت «فتيات الطواحين» في نيو إنغلاند على استقلالهن الجديد من خلال ظهور مصانع النسيج في تلك المنطقة. ورغم أن ظروف العمل كانت شاقة ومجهدة، فإن المطاحن منحت الفتيات الشابات دخلاً خاصاً بهن وفرصاً كبيرة لتوسيع آفاق حياتهن. وجاء في مقالة نشرت على صفحات مجلة «لاويل أوفرينغ» المعنية بشؤون النساء وقتذاك: «توجد الفتيات هنا لكل الأسباب الممكنة، ومن دون أي سبب على الإطلاق أيضاً». وانجذب كثير من النساء لفرصة شراء الملابس بأنفسهن. ومن خلال صناعة الفساتين، والياقات، والشرائط الجميلة بأسعار معقولة، أحدثت ثورة المنسوجات مزيداً من المغريات القوية للحصول على فرص العمل بأجور مجزية.
حتى عندما ساءت الأحوال والأجور وظروف العمل بعد ذلك، منحت المطاحن النساء أنماطاً جديدة من الاستقلال المالي، تمثل في القيام بأدوار ريادة الأعمال على سبيل المثال. كما وفر العمل للنساء هوياتهن العامة في المجتمع؛ تلك التي تجاوزت حدود المواقد والعمل من المنازل.
بالإضافة إلى ما تقدم، كانت مقدرة فتيات الطواحين على نشر مجلاتهن الأدبية الخاصة تفيد بوجود اختراع آخر نادراً ما أشيرَ إليه بوصفه أحد محفزات تحرير المرأة: المطبعة الدوارة العاملة بالبخار؛ تلك التي جرى اختراعها في أربعينات القرن التاسع عشر، ورفعت من سرعة الطباعة بمقدار عشرة أضعاف، وسرعان ما زادت وتيرتها بعد ذلك من خلال الاختراع الذي أتاح للماكينات الطباعة على وجهي الورقة الواحدة في الوقت نفسه. ومن خلال انخفاض تكاليف الطباعة للكميات الكبيرة، مكّنت التكنولوجيا الجديدة من التوسع بصورة كبيرة في سوق الكتب والمجلات والصحف، وكذلك للمؤلفين والكتاب سواء بسواء.
وصار من الممكن لمؤلِّفات الخيال الروائي، من أمثال الأخوات برونتي ولويزا ماي ألكوت، بالإضافة إلى كثير من المؤلِّفات الشهيرات المنسيات الأخريات، أن يكسبن عيشهن بصورة مستقلة. ومن خلال رواية «جين أيير» حصلت السيدة شارلوت برونتي على 25 ضعف راتبها في وظيفة المربية غير المحبوبة. وطرحت السيدة ألكوت أقاصيص «الدماء وحكايات الرعد» للمجلات، كما كتبت رواية «نساء صغيرات» من أجل الحصول على المال.

شاهد أيضاً

العبدالهادي يصدر الجزء الثاني من كتابه «مبدعات كويتيات»

Share