الجمعة , 20 يونيو 2025

القلق والخوف في العمل.. مرض العصر

Материнство-–-карьера-и-малыш4
إيما ياكوبس*

في البداية شعر بوخز وتنميل في أصابع يديه، وأصابع قدميه، بعد ذلك سيطرت عليه حالة من الشلل العقلي. «لم أكن قادراً على التفكير حول كيفية اتخاذ قرار»، كما يقول المدير التنفيذي المصرفي البالغ من العمر حوالي 45 عاما. «لقد تجمدت كليا. شعرت أن معدّل ذكائي هبط فجأة الى 50 نقطة». وكما يقول، فإن ما أطلق حالة القلق هذه لديه كان متطلبات العمل غير الواقعية. «عدم اتخاذ القرار صعّب الأمور، لأنني في تلك اللحظة لم أكن قادراً على الإنتاج وتقديم أي أداء».
مع ذلك حاول كبح جماح قلقه لأنه كان يخاف ان يفكر رب عمله بأنه ليس أهلا لتلك الوظيفة. فالثقافة السائدة في مكان عمله كانت تُجبر الموظف بإبقاء رأسه منحنياً، والعمل بشكل شاقٍ، وعدم الاعتراف بالضعف. كان يريد أن ينظر إليه الجميع على أنه موظف يتمتع بالكفاءة والمرونة. لكن الناس بدأوا يلاحظون أن عمله ــ وليس صحته العقلية ــ في تراجع. وقال «بالنظر الى أنني كنتُ دائما ذلك الصبي الذهبي بدأت أنهار عندما كان مسؤولي يطلب مني تنفيذ أي مهمة منكوبا بالخوف الذي اعتراه عندما بدأ يفكر في أنه شخص مزيف، فكّر بالانتحار. كان ذلك في عام 2014. بعد حصوله على المساعدة النفسية المتخصصة عاد حاليا الى مركز عمله وأصبح خبيرا في اكتشاف علامات القلق لدى الآخرين. «الخصائص التي تساهم في التوتر يمكن أن تكون ايضا السبب الذي ساهم في وصول المُنجزين الكبار الى مناصبهم الحالية: إرضاء الناس، الكمالية، الحاجة لأن تكون قويا، وأن تتوخى الحذر المفرط كي تتمكن من مواجهة التهديدات الناشئة»، كما يقول.

القضية أعلاه، مثال صارخ عن القلق والتوتر الذي يختبره الموظفون، والذي يفترض بأرباب العمل أن يولوه اهتماماً متزايدا. لقد أصبح ما نشير إليه هنا ظاهرة عالمية واسعة النطاق، لكن في المملكة المتحدة وحدها يقدر تقرير حديث جدا صادر عن الهيئة الصحية العليا أن عدد أيام المرض الناجمة عن «التوتر، الكآبة والقلق» قد ارتفع بمعدل %24 بين عامي 2009 و2013. الإحصاءات باتت بالتالي تدق ناقوس الخطر: فقد اشار تقرير صادر عن كلية الإدارة «روتمان» في تورونتو تم نشره خلال العام الماضي، إلى أن %41 من الموظفين العاملين في تشكيلات صناعية مختلفة، تقدموا ببلاغ عن معاناتهم من مستويات مختلفة من القلق.
ويُعزى سبب هذا الارتفاع غالبا الى الاسلوب العصري للحياة العملية. فالتدفق المستمر والدائم للنصوص، الرسائل الإلكترونية والتغريدات بات يعقّد أدمغتنا ويؤرق نومنا، أضف الى ذلك ان استخدام الآلات والإنسان الآلي (الروبوت) بات في تصاعد، وبتنا نخاف التهديد الماثل باحتمال سرقة وظائفنا. التكنولوجيات الجديدة تنشأ من فروع غير اعتيادية بهدف جذب الشركات المؤسسة، العمل يبدو غير آمن، والعلاقات المؤسسية فضفاضة. كما أن التوقعات المرتبطة بالحياة العملية التخصصية قد تغيرت. ويفترض بالعمل أن يوفر التحقيق الشخصي، طالما أن النشاط الذي نقوم به هو من أجل المال والمكانة. لكن ما نتيجة ذلك؟ لقد بتنا نعاني الاستياء، والخوف والقلق.
«بعد عقد من التعطيل، التخفيضات وتسريح العمال، ارتفعت نسبة القلق بين الموظفين بشكل كبير» كما يقول بيل جورج، الاستاذ المسؤول في كلية التجارة بجامعة هارفارد.

التشخيص
يوصف القلق بشكل تقليدي بأنه انعكاس للشعور المتمثل بعدم الراحة، التوتر أو الخوف. وعندما يصبح حادا تصبح تأثيراته مساهمة في التسبب بإضعاف الاشخاص المصابين به. بعض الناس أكثر ضعفا من غيرهم خلال الإصابة به، وفي مراحل مختلفة من حياتهم. هو ليس شيئاً يمكننا الحد منه بشكل كامل، ويمكنه في بعض الأحيان ان يشكل عاملاً مساعداً في تحسين أدائنا. لكن عندما يصبح كثيراً يتحول الى شيء مساهم بالتآكل، وبالتالي يؤدي في بعض الأحيان الى الإدمان على الكحول والمخدرات.
الغياب عن العمل يعتبر جزءا واحدا فقط من المشاكل التي قد يعانيها أرباب العمل. فقدان الإنتاجية ــ الوجه الآخر من التغيّب عن العمل ــ هي مشكلة أخرى. وهذا يحدث عندما يأتي الموظفون الى العمل لكنهم يؤدّون وظيفتهم دون المستوى المطلوب بسبب صحّتهم العليلة. وتشير البحوث الى ان هذا التوجه يؤثر بشكل أساسي على العمال من ذوي الياقات البيضاء (أي الكوادر)، وأن تكاليف ذلك ممكن أن تكون باهظة. أحد التقارير توقع بأن يكون الغياب الوظيفي، بما في ذلك جميع القضايا الطبية والصحية العقلية، قد ساهم باستقطاع حوالي %2.7 من الناتج الإجمالي المحلي لاستراليا في عام 2010. وأفادت دراسة أخرى صادرة عن مجلة علم النفس التطبيقي تم نشرها خلال العام الماضي: «القلق يتدخل في قدرة الناس على معالجة الأحداث المباشرة، بما يؤدي تالياً لانخفاض أدائهم».
كرد على ذلك باتت الشركات توفر برامج خاصة لمساعدة العمال على التعامل بشكل أفضل مع التوتر والقلق. وقد تم ذلك ايضا حتى في الصناعات المفرطة في التنافس والمنافسة مثل تلك الفاعلة في القطاعات المالية او التكنولوجية، التي توصلت مؤخرا لقناعة بأن الاهتمام بالصحة العقلية للموظفين سيكون أمرا جيدا لتحقيق الارباح.

الأسباب
مايكل سينكلير، وهو طبيب نفسي عامل في لندن يرى عددا «هائلا» من المصرفيين والمحامين الذين يعانون من مسألة القلق المرتبطة بالعمل. «إنهم يعملون بوتيرة لا هوادة فيها. الضغط موجود دائما، وهناك ثقافة التواصل بشكل مستمر عبر البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي».
لكنه يؤمن ايضا بأن هناك مشكلة أكبر بالنسبة للشركات: فهكذا قلق يمكن أن يكون مُعديا. «قلق الشركة من الفشل يولّد الخوف نفسه بين الموظفين بما يخلق مرضا شاملا في الشركة، وبالتالي ثقافة القلق»، كما يقول د. سينكلير. «المفارقة هي ان لكل ذلك أثرا عكسيا، وله ارتدادات سلبية على النتيجة المالية النهائية».
التكنولوجيا تشكل عاملا مساهما، كما يقول نايجل جونس المحامي وأحد مؤسسي «سيتي مينتال هيلث ألاينس»، وهي منظمة غير ربحية مسؤولة عن موظفي الخدمات المالية في لندن. وهو يؤمن أن الفاعلية المكثفة قد ازدادت منذ أن بدأ يعمل قبل 30 عاما.
«الزبائن يريدون المزيد في ما يخص السرعة والجودة. هناك المزيد من الضغوط في مكان العمل، ولذا فإن مخاطر نشوء القلق مرتفعة»، كما يقول، مضيفا ان 27 عاملا في المدينة أصبحوا أعضاء في الشبكة في غضون عامين. «التوقعات برد سريع (للعميل) باتت أعلى بكثير من السابق، لكن التوقعات المرتبطة بجودة العمل قد انخفضت».
جيانبييرو وبيتر يجلييري، البروفيسور المساعد في مادة التصرف المنظم لدى كلية «إنسيد» للتجارة يرى أن صعود وسائل الإعلام الاجتماعية عامل مساعد في إطلاق ما بات يعرف بــ«قلق العرض»، بما يجعل الناس يشعرون بأنهم ضعفاء. وكما يقول، فإننا نعاني من «كوننا دائما في حالة عمل».
وعلى الرغم من أن البطالة في المملكة المتحدة في أدنى معدل لها منذ سبعة أعوام، فإن عقود العمل قصيرة الأمد والقلق الوظيفي العام قد ازداد بالنسبة لملايين الأشخاص العاملين في قطاعات مختلفة، ابتداء من عمال الفولاذ، مروراً بالممرضات، وانتهاء بالمصرفيين.
البعض يجادل بأنه من المستحيل احتساب تأثير تغيير التكنولوجيا وظروف العمالة على الارتقاء الحاصل في حالات القلق التي يتم الإبلاغ عنها.
«ان محاولة اجراء مقارنة مباشرة لمستويات القلق بين الحقب هو أمر أحمق» كما يقول سكوت شتوسيل صاحب كتاب «حياتي مع القلق». ويضيف «إن بيانات الاستطلاع الحديثة والاحصائيات التي تشير الى ارتفاع وانخفاض مستويات استعمال الأدوية المهدئة للأعصاب تبقى جانبا واحداً، لانه لا يوجد مقياس سحري للقلق من ذلك الذي يمكنه ان يتجاوز خصوصيات المكان والزمان».
الجواب بالنسبة للبعض قد يتمثل في أن يسيطروا على برامج عملهم، أو أن يوظفوا انفسهم بأنفسهم، ولكن حتى ذلك الأمر يمكن ان يكون بمنزلة سيف ذي حدين، كما يقول باري شفارتس استاذ النظرية الاجتماعية والعمل الاجتماعي لدى كلية سواثمور في الولايات المتحدة، وأضاف كاتباً أن «هناك جانبا مظلما لكل هذا التحرر من القيود، لكل هذا التركيز على الأفراد بصفتهم صناع عالمهم الخاص، وصناع مصائرهم، فذلك يترك الناس حيارى بشأن ما يجب عليهم أن يفعلوه، ولماذا».
سارة هوروفيتس من اتحاد موظفي الأعمال الحرة في الولايات المتحدة أبلغت فايننشال تايمز في وقت مبكر من هذا العام: «إذا كنت تدير برامج صحية لعمال المناجم، فيجب عليك ان تكون خبيراً في ما يعرف بداء الرئة السوداء، وإذا كنت تدير تلك البرامج للموظفين في الأعمال الحرة، فيجب ان تكون متخصصاً في القلق».
لقد اثبتت الوسائل والأجهزة الجديدة – التي يتم تقديمها عادة على أنها أجهزة لتوفير الوقت – أنها مقلقة. وفي هذا السياق تشير الكاتبة بريجيد شولتي صاحبة كتاب «مغمور: العمل، الحب واللعب، عندما لا يكون هناك وقت لذلك» إلى أن أموراً بسيطة مثل اختراع قلم الرصاص جعلت بعض الناس يفكرون في أن المعرفة والعلوم تتدفق بشكل سريع للغاية.
«يشعر الناس أن الوقت يتسارع، وأن أساليب العيش والعمل القديمة والمعتادة تمر ويتم استبدالها بشيء غريب وغير أكيد»، كما تقول.
ما يتغيّر هو وعي رب العمل للقضية. في عام 2007 عانى جون بينز الشريك السابق لدى شركة الخدمات الاحترافية «ديلويت» من القلق والكآبة شخصيا: «كنتُ أنظر الى رسائلي الإلكترونية بقلق، مفكرا أنني لو فتحتها ستتضمن أخبارا سيئة». كما أن رنين جرس الهاتف كان يُثير في نفسه شعورا مخيفا. ويقول إن تلك الثقافة لم تكن تسمح للناس بالتحدث عن القلق في العمل.
اليوم بات المذكور مستشارا مستقلا حول شؤون الصحة العقلية لعدد من العملاء، من ضمنهم شركة ديلويت نفسها. وقد عكس هذا التغيير وعيا أوسع عن القضية، ولكن في الوقت نفسه اهتماما وقلقا بين أرباب العمل، حول القضايا القانونية المحتملة التي قد يرفعها العمال. هناك مخاوف إضافية حول العلامة التجارية والسمعة وحتى التوظيف بالنسبة للشركات التي تتمتع بسجل ضعيف في ما يخص الأمراض العقلية.

الإجراءات الوقائية
لقد توسع نطاق برامج الموظفين التي تركز على الرعاية العقلية للعمّال بشكل واسع مؤخرا: من الدعم المالي إلى خطوط الاستشارات والمساعدة. وبحسب تقرير مرتبط بالقطاع صادر عن شركة إيبيسوورلد المتخصصة في أبحاث السوق، فإن عدد الشركات الأميركية التي تبنّت برامج مماثلة خلال العشرين عاما الماضية قد تضاعف ليصل إلى %74. وقد بات المستشارون الذين يتم توظيفهم من قبل أصحاب العمل القلقين من انخفاض الإنتاجية جزءا من الصناعة غير الرسمية التي انتشرت بهدف كبح جماح القلق والتوتر في أماكن العمل.
تنبيه الذهن (ممارسة تدعو بحسب أنصار هذا التوجه الى تحفيز الوعي من خلال دراسة التجربة الناشئة لحظة بلحظة) هو أمر لم يعد يمارَس بشكل حصري من قبل الكهنة البوذيين وأتباعهم فقط، بل يتم تبنيه ايضا من قبل المديرين التنفيذيين الرئيسيين. وشركات مثل غوغل وأبل وسوني باتت من ضمن الشركات التي يجب عليها تبنّي برامج «لتنبيه الوعي»، بهدف تشجيع الموظفين على التأمل والتركيز، وجعلهم بالتالي أكثر إنتاجية وقناعة في عملهم. «المرونة» تعبير آخر اكتسب جاذبية بين أرباب العمل.
المستشارون المتخصصون في كيفية التعامل مع المخرجات الرقمية السامة ينصحون الموظفين في مسائل مرتبطة بكيفية التوقف عن الالتهاء بالبريد الإلكتروني والنصوص وموقع تويتر. ويوفرون خلوات متخصصة للمديرين التنفيذيين المبتلين بهكذا مصائب، أو إمكانية الحصول على استشارة من اختصاصيين يعملون بشكل وثيق مع الموظفين لمساعدتهم في توفير الممارسة التقنية الجيدة.
لكن سيكون من الخطأ المبالغة في حجم المساعدة المؤسسية المتاحة. فقد اكتشف «المعهد المعتمد للموظفين والتطوير» أخيرا أن %60 فقط من المنظمات في المملكة المتحدة تتبنى خطوات لتحديد وخفض التوتر في أماكن العمل.
والخطر الماثل باستمرار يتمثل في أن مبادرات الرفاه هذه تتحول إلى ما يشبه تمارين رياضة الركل بالأرجل (كيك بوكسينغ) من تلك التي يخلقها مديرو الموارد البشرية. والإدارات الملتزمة بتسويق الصحة العقلية القوية قد تتعارض مع الواقع اليومي بالنسبة للزملاء. علاوة على ذلك يمكن ان يكون للبرامج المعنية ردة فعل عكسية عندما يصبح الموظفون قلقين حيال مسألة فشلهم في أن يكونوا حريصين كما يجب.
«إذا كنت تعرض صفوفاً لتنبيه الذهن أو برامج مرتبطة بالصحة والعافية، فإن ذلك كأنك تقول بأن سبب القلق الناجم موجود لدى العامل نفسه، وبالتالي يجب أن يكون الحل لديه أيضا. وهذا بالتأكيد أمر غير عادل أبدا»، كما تقول السيدة شولتي، التي تجادل بأن العديد من البرامج المؤسسية تفقد البوصلة في ذلك الأمر. «نعم، هم يمنحون الناس الأدوات لإدارة الإجهاد والقلق، لكن القادة والشركات بحاجة للاعتراف بدورهم في ذلك أيضا.
يمكن على سبيل المثال أن تتبنى الشركات توجيهات بخصوص إطفاء الأجهزة التكنولوجية، بما يعفي الأفراد تاليا من المسؤولية المترتبة عليهم إذا رفضوا الإجابة على الرسائل الالكترونية التي تصل إليهم في ساعات الليل المتأخرة.
كما أن تشجيع الموظفين على تشارك خبراتهم هو أمر مهم. وتأمل منظمة «سيتي مينتال هيلث ألاينس» في هذا السياق، في أن إقناع المصرفيين الكبار والمحامين بالتحدث حول قلقهم قد يحث الآخرين على ذلك، وعدم التردد تالياً بالبحث عن المساعدة المطلوبة.
«يعتقد الناس أن كل شخص آخر هو بمنأى عن جميع تلك المشاعر. لكن العديد من الأشخاص الناجحين جداً يعانون القلق أيضا»، كما يقول السيد بينز ويضيف، أن «هناك طريقا طويلا لنقطعه قبل أن نتمكن من التعامل مع الضعف».
ويقول المصرفي – الذي يراقب حاليا إشارات القلق الموجودة عند الآخرين – بأنه أقل تفاؤلاً بدرجة كبيرة.
فالموظفون المتخصصون العاملون بجد يرتدون الإجهاد وسام شرف، ولا أحد منهم يعترف بوجود القلق لديه.
«أنا أتحدث مع الأشخاص عندما أرى تلك الإشارات. وأجد الوقت، النبرة والوقت المناسبين كي اطرح الموضوع. لكن من الصعب على هؤلاء الأشخاص ان يتحدثوا عن الأمر، وبالتالي نحن بحاجة لأن نجعل ذلك اكثر سهولة»، كما يقول.

 

شاهد أيضاً

الاستثمار في المرأة مفتاح التنمية المستدامة

Share