
المرأة نصف المجتمع، لكنها اليوم تقود مجتمعات في كل القطاعات، وتحقق نجاحات وإنجازات باهرة في جميع الميادين والمجالات، والإنجازات التي حققتها على أرض الواقع خير دليلٍ على ما تركتها من بصماتٍ واضحةٍ ونماذج يمكن الاقتداء بها شكلن تغييراً في واقع المرأة التي لعبت دوراً حيوياً وحاسماً في التكوين الثقافي والتأثير المعرفي للمجتمعات، فكانت قوةً دافعةً ورئيسيةً للنمو المستقبلي والنهضة المجتمعية على تحقيق ما يظنه البعض مستحيلاً، ومن بين النساء اللواتي أثبتن أنفسهن في مجالات قيادية وعملية كانت حكراً على الرجال المقدسية الدكتورة صفاء ناصر الدين التي استطاعت أن تُخرج ما بداخلها من قدراتٍ إبداعيةٍ لتحقق النجاح وتُسهم في خدمة مجتمعها.
استطاعت المرأة أن تتجاوز الصعاب، وتبرز شخصيتها، ونجاحها ومواهبها، وقطعت أشواطاً كبيرة للمطالبة بحقوقها ومساواتها بالرجل، وقدمت تضحياتٍ كبيرةً لبلوغ مراتب مهمة في الحياة، وتمكّنت من تحقيق طموحاتها بثقةٍ واقتدارٍ كبيرين، وفرض احترام المجتمع لها.
ونستعرض مسيرة أول امراة تتولى منصب وزيرة للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في العالم العربي، صنعت قصة نجاح رائعة تستحق الدعم والثناء.
تقول الدكتورة صفاء بملامحها الهادئه وابتسامتها الدافئة: لم تحصل المرأة على النجاح بسهولة كما يعتقد البعض من الناس، فهي تمرّ بالعديد من التجارب والعقبات حتى تكتسب الخبرة التي تثري قدراتها وإمكاناتها، إضافةً إلى علمها الذي تصقله في معترك الحياة العملية، فالشهادة وحدها لا تكفي، بل يجب تطويرها والجد والاجتهاد للوصول إلى ما نريد.
الولادة والدراسة
ولدت صفاء في مدينة القدس العام 1969 في الخامس من أيار لعائلة من مكونة من ستة أفراد، والتحقت بمدرسة الشميدت.
وتقول: كان حلمي أن أُكمل تعليمي الجامعي في ألمانيا العام 1986، أنهيتُ التعليم المدرسي، وكان لا بد من الانتقال للمرحلة الجامعية، إلا أنّ والدي كان يرفض تماماً السفر إلى الخارج، وطلب مني أن أدرس في فلسطين، فأكملتُ دراستي الجامعية في جامعة القدس في أبوديس، واخترتُ كلية التكنولوجيا الإلكترونية، كوني كنت أبحث عن تخصصٍ جديدٍ وغريب، والتخصصات في فلسطين كانت محدودةً في تلك الفترة، وقبل التخرج بعامٍ واحدٍ فقط تم تحويلها إلى كلية الهندسة، وكنتُ أول خريجة من الجامعة بتخصص هندسة إلكترونية عام 1994، وحصلت على درجة البكالوريوس في تخصص الهندسة الإلكترونية، وكنت الأُولى على دفعتي، وعملت مُعيدةً في جامعة القدس “مساعدة بحث وتدريس”.
وتضيف: الحياة الجامعية كانت فيها صعوبات كثيرة، فقد أخذت مني ثماني سنوات في الدراسة، منها أربع سنوات ونصف السنة فقط فعلية، إذ إنه في تلك الفترة اشتعلت الانتفاضة الأُولى وحرب الخليج، وكانت هناك إغلاقات كثيرة، وكوني اخترت تخصصاً غريباً كل من فيه ذكور، بعدها تقدمت لبعثة لإكمال دراساتي العليا في فرنسا العام 1995 بالتخصص نفسه، ولم يعترض والدي لأنه شعر بظلمه لي عند منعي من السفر للمرة الأُولى والدراسة في الخارج، وبقيت هناك حتى العام ٢٠٠٣، وحصلتُ على درجة الماجستير والدكتوراه.
وتتابع صفاء: لم تكن الحياة في فرنسا سهلةً أبداً، وكانت هناك العديد من العقبات والصعوبات التي واجهتني، لكنّ التحدي الأكبر كان في أُستاذي المشرف على رسالة الدكتوراه الذي شكّل عائقاً لمنعي من الحصول على الشهادة، ما اضطرني في نهاية المطاف لأكتب رسالةً لرئاسة الجامعة، وكون المشرف هو الملك، قرروا أن أعود إلى فلسطين وأُثبت أنني أستحق الحصول على هذه الدكتوراه من خلال الأوراق البحثية التي أُقدمها وأعمل عليها، وبالفعل عدتُ إلى فلسطين عاماً كاملاً، عملت خلاله بالتدريس في جامعة القدس، إضافةً إلى إعداد أبحاث وتقديم أوراق بحثية تم قبولها واعتمادها، ثم عدتُ إلى فرنسا عام ٢٠٠٢، وتم إجبار المشرف على رفع رسالتي التي كنتُ أنهيتُها قبل عودتي، وبقي يماطل سنتين حتى تم رفعها والمباركة عليها مع مرتبة الشرف.
الحياة العملية وتطوير المهارات
تتابع الدكتورة صفاء الحديث عن العمل: أول عمل لي كان مع والدي وقت المدرسة، والانتفاضة الأُولى في المكتبة العالمية، كان فيها كل أنواع الكتب غير المتوافرة في أماكن أُخرى في القدس، فكنتُ أتعامل مع كل الناس، من المثقفين حتى الأطفال، وكانت تجربةً أضافت لي الكثير وأكسبتني مهارة الاتصال والتواصل، وعززت ثقتي بنفسي.
وتضيف: وعندما عدت من فرنسا إلى فلسطين كان السؤال المطروح: ماذا سوف أعمل بشهادتي؟ وقد تقدمت لكثير من الوظائف، إلى أنْ وجدتُ صدفةً إعلاناً في الجريدة عن معهد تكنولوجي، وبحاجةٍ إلى مدير، فتقدمتُ للوظيفة وقُبلت فيها، عملت في معهد وجدي أبو غريبة التكنولوجي عميدةً ومديرةً للمعهد مع المرحوم نهاد أبو غربية (أبو وجدي)، كان يمتلك الكلية الإبراهيمية، وبدأنا تأسيس المعهد في طابق فوق الكلية، فأعددتُ اللوائح وبرنامج البكالوريس، واستقطبتُ مدرسين، وعملتُ كل الإجراءات من الصفر حتى تخريج أول دفعةٍ فيه العام 2008، ثم تمت إقالتي منه في 2009 بعد وفاة صاحبه.
وتكمل الدكتورة صفاء: كنت في تلك الفترة منخرطةً بعالم التكنولوجيا، وكنت حريصةً على أن أحصل على كل الدورات المتاحة في هذا المجال في فلسطين، لأُعزز دراستي في الهندسة الإلكترونية؛ من هندسة شبكات ومطورة برمجيات وقواعد البيانات وبناء مؤسسات وإدارة مؤسسات مالية وغيرها، ما يؤهلني لأكون كفؤةً في منصبي، وكنتُ حريصةً على أن أُسلح نفسي بالمهارات المختلفة، والأهم من ذلك هو شبكة المعارف، فقد كنت معروفةً جداً في المجتمع التكنولوجي، لأنني كنتُ أُشارك وأحضر وأُتابع كل النشاطات التكنولوجية في الوطن.
وتتابع: وقد مثلت فلسطين في الخارج مع وزارة الاتصالات عام ٢٠٠٥، وكان الوزير صبري صيدم، وكنتُ أتطوّع مع الوزارة، وعملنا على مشروع فلسطينية، وهو إشراك النساء وتشجيعهنّ على الدخول في هذا المجال وتوفير فرص العمل لهم، وفي عام ٢٠٠٩ بعد إنهاء وظيفتي في المعهد كان وزير الاتصالات مشهور أبو دقة، عملتُ مستشارةً لوزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات سنتين ونصف السنة، تطوَّع بعقدٍ بسيطٍ، ثم طرح اسمي لأكون وزيرة للاتصالات في العام 2010.
وتقول صفاء: إضافةً إلى تطوعي في الوزارة عملتُ في جامعة القدس عميدةً لكلية هند الحسيني للآداب والعلوم التربوية لمدة سنتين، واستطعتُ أن أحصل على مشروع من التعاون الدولي لإعادة ترميمها وتأهيلها وتدريب الكادر الأكاديمي والإداري فيها، في 16 /5/ 2012 تم تعييني وزيرةً للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في فلسطين حتى 2014.
أول وزيرة اتصالات
في سنة 2012، تم اختيارها وتعيينها من حكومة سلام فياض لتشغل منصب وزيرة للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وبهذا فهي أول وزيرةٍ تشغل منصب وزيره الاتصالات، ليس في تاريخ فلسطين، بل في الوطن العربي كله، ولم يكن اختيارها عشوائياً، بل لكفاءتها العلمية والمهنية والإدارية.
وتتابع حديثها عن توليها منصب وزيرة بكل تواضُع: التجربة كانت غنية ومنوعة، وهو ليس بالمنصب السهل، خاصة في الحكومة وكنتُ أُحاول دائماً تحفيز الجميع للعمل والعطاء من أجل الوطن، كانت هناك إنجازات في تلك الفترة بتحرير قطاع الاتصالات وتخفيض الأسعار، وركّزنا على المحافل الدولية لتعريف العالم بالظلم الواقع على فلسطين في هذا المجال بكل قطاعاته، كانت تجربة جيدة، ودعمني بها زوجي كثيراً، فقد كان خير سند، ولم يكن أبداً عقبة أمامي، وبعد الوزارة عدتُ إلى الجامعة لأكون نائبة رئيس جامعة القدس لشؤون القدس، وهذا كان هدفي؛ أن أخدم القدس وأعمل فيها.
وتضيف بابتسامتها المعهودة وتواضعها في جامعة القدس كنت طالبة ومعيدة ومدرسة وعميدة ونائب رئيس ومريت بكل المراحل في الجامعة ومابينهما كنت وزيرة.
وكان لها دورها البارز في الإنجاز والعطاء وفي بناء مركز التبادل للبريد الدولي عام 2013، واعتماد إطار التبادل البيني “زنار” كوثيقةٍ مرجعيةٍ في جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية من مجلس الوزراء، وتشكيل الفريق الوطني لزنار بقيادة وزارة الاتصالات وعدد من الوزارات الأُخرى، وإصدار أول طابع ايرادات باسم دولة فلسطين.
وتردف: من أكثر السلبيات التي تواجهها المرأة في مجتمعنا هي تلك النظرة العنصرية التي لا تزال عند البعض بأنك امرأة مهما بلغتِ من منصب وحققتِ من إنجازات، لذلك فإن رسالتي لكل سيدة: عليك أن تبذلي جهداً إضافياً لإثبات نفسك وتعزيز موقعك وإسماع صوتك، والأهم هو تعزيز ثقتك بنفسك لتكوني قويةً وقادرةً على الإنجاز والعطاء والاستمرار في المشوار.
الدكتورة صفاء ناصر وضعت بصمتها في مجالات كثيرة، ما تطلب منها بذل جهودٍ كبيرةٍ على عدة محاور للنهوض بقطاع الاتصالات في فلسطين، وقد كرّمتها القمة الإقليمية لتحالف ألواني، كونها أول امرأة وزيرة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.