
بأنامل سحرية هادئة ولمسات فنية هادفة حملت ريشتها وأسمعت صوتها واوصلت عمق فكرتها، لتحوّل بذلك الفنانة أسمى غانم الشوارع إلى معرض للوحات الفنية التي تعكس من خلالها ثقافةً في ملامح جديدة أضافتها إلى الشارع، تهدف إلى تعزيز أهمية المرأة ودورها، ولتروي من خلال جدارياتها وبانتقاء شخوصها قصص نساء استطعن بإرادتهن تحقيق الكثير، وتكون فكرتها تجسيد قضايا المرأة وطرحها بشكلٍ خاصٍّ من خلال الفن والرسم، والمساهمة في إبراز صورة لها تخلق ثقافة جديدة بأُمنيات ملونة، وذلك ببناء وعيٍ مختلفٍ لكل من يمر بها ليبحث ويقرأ ويعرف أكثر، فالفن بمختلف أشكاله له دورٌ مهمٌّ في تجسير العلاقة بالمجتمع، وخلق حالةٍ من التغيير وتراكم الخبرات الإنسانية، فالفن سلاح لا يسقط.
أسمى غانم التي استطاعت موهبتها إتاحة الفرصة لها لتجسيد قضية المرأة واستعراضها برسالةٍ فنيةٍ هادفةٍ عبر ريشتها وألوانها وجدارياتها الأربع، تُلقي الضوء على مضمون أعمق من صياغة الجمال، تحكي سيرة ومسيرة وتاريخ وثورة نساء لهنّ أهميتهن في فلسطين والعالم، من خلال إحداث إبداع بصري فيه توثيق وتأكيد على ما يحمله العمل من رسالة فنية لتغيير حال المجتمع وتنويره بأهمية المرأة، وما تقدمه بتجسيد صورها لتحمل رسالةً جماليةً وفق خطٍّ مُعاصرٍ ومتحضر، يرفد الحياة الاجتماعية بعفويةٍ وبلوحةٍ لتعريف كل المجتمع بهؤلاء النساء وبإنجازاتهنّ، من خلال الدمج ما بين البحث والقراءة تصبح الثقافة جزءاً من الشارع.
الطفولة في “خان الشيح” والدراسة في رام الله وفرنسا
الشابة أسمى غانم، ابنة التسعة والعشرين عاماً القاطنة في مدينة رام الله، تحكي عن فنها ولوحاتها، وتبدأ من طفولتها في مخيم “خان الشيح”.
وتروي: “أنا لاجئة فلسطينية ولدت في دمشق، وتحديداً ريف دمشق- مخيم “خان الشيح”، درست الفنون الجميلة في الأكاديمية الدولية للفنون في رام الله، كما حصلت على ماجستير في الفنون البصرية والصوت من فرنسا، في طفولتي كنت أُعاني من صعوبات في التعلم وبطءٍ مقارنةً بأبناء جيلي من الأطفال، وبالرغم من ظروف المخيم فإنّ والدتي كانت حريصةً على خلق فرصةٍ لي وتحفيزي، لتدفعني إلى الأمام بقولها إنني مختلفة ومتميزة عن الآخرين كوني فنانة، ولديَّ طاقات كبيرة، وبالفعل دفعتني إلى الفن بإحضارها لي أدوات للرسم، وبدأت برسومات بسيطة آتت ثمارها كنوعٍ من التعبير عن نفسي، واستطعت أن أجعل موهبتي سلاحي لأتجاوز كل الصعوبات التي واجهتُها في التعلُّم.
وتواصل: عشتُ وكبرتُ في سوريا حتى عام 1995 بعد توقيع اتفاقية أُوسلو، وعادت عائلتي إلى أرض الوطن، لكنها لم تستقر، وتنقّلت ما بين فلسطين وسوريا حتى عام 2008، واستقرت عائلتي في مدينة رام الله، وهذا التنقُّل أثراني وأثرى ريشتي كثيراً لتعبر عن حنيني وشوقي إلى وطني وأنا لاجئة بعيدة عنه، ولتعبر عند عودتي إليه عن حنيني وشوقي إلى وطني الثاني الذي ترعرعتُ فيه، هذا التمازج بين البلدين والمشاعر خدم هويتي، فأنا فلسطينية وسورية، وهو مادفعني طيلة الوقت إلى التفكير بمفهوم الوطن، وأن لا شيء يستطيع أن يوقف ريشتي عن رسم عالمها الذي حواها، ووجدت فيه ملاذاً وجسراً للتفكير بشكلٍ مختلف.
وتتابع: أنا فنانة فلسطينية متعددة الوسائط، أُمارس أكثر من نوع من الفن ما بين اللوحات والتصوير والموسيقى والكتابة، والفن الفلسطيني فن مهم ومحتواه قوي جداً، وهو ناتج عن بيئة حقيقية يعيشها الفنان بشكل مباشر، مايعطيه دفعةً لإنتاج فنٍّ مختلف يحمل القضية الفلسطينية، ويوظف خياله بكل العناصر المتاحة له، لذلك أجد نفسي في الدمج ما بين هذه الوسائط حسب العمل الفني، سواء بالكتابات التي أمزجها مع الرسم أو الموسيقى والصوت، مشاهد كثيرة انطبعت في ذاكرتي، لكنّ أقساها كان في انتفاضة الأقصى في العام 2000 لأُمٍّ تحمل طفلها الشهيد، ولا تزال تلك الصورة المؤلمة في ذهني، وكيف انطلقت ريشتي لتجسدها كدليلٍ على بشاعة المحتل، وتكون نقطة بداية لي، لكن للأسف لا أعلم كيف حال هذه اللوحة وغيرها من رسوماتي وكتبي والكثير من الذكريات الموجودة في منزلنا في سوريا لأنه تعرّض للقصف.
إنجاز جدارية عن أربع نساء رائدات طولها 150 متراً
غانم الفنانة والموسيقية والكاتبة أنجزت جدارية كبيرة طولها 150م عن أربع نساء رائدات من العالم ضمن مشروع “منارات” الذي أطلقته بلدية رام الله لتصميم مساحات عامة في المدينة، وإطلاق العنان للمخيلة المجتمعية لسكانها، من خلال ممارسات فنية معاصرة، ما يشكل إيجابية وجمالية في المحيط.
وعن هذه الجدارية تقول: الفكرة تبادرت إلى ذهني من خلال سفري إلى دول كثيرة ومختلفة، وكان العرض الفني في الشارع يحظى باهتمام كبير وتُرصد له ميزانيات ضخمة، كونه المرآة التي تكشف لكل مدينة هويتها الفنية، إضافةً إلى كونه جزءاً من التثقيف، ناهيك عن كون مجتمعنا ذكورياً، والهوية النسوية في الشارع الفلسطيني خجولة، وكانت الفكرة بإضافة الطابع النسوي للشارع الذي يطفح بهرمون الذكورة لخلق توازن في الشارع العام عن طريق فن الغرافيتي المعروف بالفن المقاوم الذي يتجسد أصلاً في الشوارع والأبنية عبر رسومات وكتابات لها طابع خاص تحمل في طياتها رسالة وهدفاً.
وعن الشخصيات التي اختارتها تقول: حين قدمت مشروع الجدارية اخترت أربع نساء رائدات مع مقولة لكل واحدة منهن وأسمائهن، وبالرغم من البُعد الجغرافي فإنّ القضايا تتجمّع تماماً كالقضية الفلسطينية، لقرب الناس المضطهدة من بعضها، فكان من الأهمية أن أُجسّد ذلك برسوماتي، فاخترتُ المفكرة والمناضلة الأمريكية أنجيلا ديفيس صاحبة البشرة السوداء التي كان همّها أن تصل إلى الشارع الفلسطيني، واخترتُها لأنها تركز في كتاباتها على العنصرية تجاه أصحاب البشرة السوداء والعنصرية تجاه الفلسطينيين، كما تربط ديفيس قضية السمر بالقضية الفلسطينية، وبالنسبة لها تحرير السمر من العنصرية لا يكتمل دون تحرر الشعب الفلسطيني.
وتضيف: أما اللوحة الثانية، فكانت للمعمارية عراقية الأصل زها حديد، وهي نموذج نسوي، تحدت كل الرجال على المستوى العالم، وبدأت تعمل في مجال العمارة، وكانت المرأة الوحيدة في ذاك الوقت التي حلمت وتحدت في مجالٍ كان حكراً على الرجال، واستطاعت أن تتساوى بأعمالها مع أقرانها من الرجال في هذا المجال، بل وتتفوق عليهم لتثبت قوة المرأة العربية في الوصول ونيل ما تريد، متجاوزةً بهذا كل العبارات المحبطة التي سمعتها في بداية مشوارها المهني، حيث قالت في إحدى مقابلاتها إن الأمر لم يكن سهلاً عليها، لكنّ إصرارها كامرأةٍ دفعها إلى المضي قدماً.
وتتابع غانم: واللوحة الثالثة للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، لأنها امرأة فلسطينية معروفة. أما الأخيرة، فكانت لعالمة الآثار الفلسطينية ياسمين زهران، وهي من مدينة رام الله، ووجودها كان مُهمّاً ضمن المشروع كتعريفٍ عن هوية رام الله.
وتواصل: رحلة العمل استغرقت سبعة أيام متتالية لساعات طويلة، وفي البداية كنت خائفة، كوني سأرسم بالفضاء العام، وتعرضت في الأيام الأُولى منها لنظرات استهجان وتعجُّب من المارة، لكن سرعان ما بدأ التفاعل المجتمعي بتقبُّل الفكرة وعرض المساعدة، وما شجّعني أكثر هو التفاعل المجتمعي، خاصة أنني كسرتُ حاجز الذكور وعضلاتهم المسيطرة على هذا النوع من الفن، من دون ترك المجال للمرأة، لترسم هويتها الفنية بشيءٍ نابعٍ من داخلها.
أعمال وخطط مستقبلية..
واختتمت بالحديث عن أعمالها وخططها المستقبلية: للا أستطيع أن يمر أسبوع دون أن أرسم، وبالرغم من أنني أعمل على المحتوى النسوي، وهذا نابعٌ في الأصل من حب والدتي للفن وتقديرها له، وأعمل حالياً على أفلام أنيميشن “كرتون” في مخيم قلنديا مع طالبتين تبنيهن فنياً، إضافةً إلى معرضين شخصيين ومعرض في ألمانيا في شهر آب، وأعمل على كتاب بتمويل لبناني من “آفاق” يخص ذوي الإعاقة من كل الأعمار، وكيف يمكن للموسيقى أن تحكي عنهم في مخيمات اللاجئين، وهو مبنيٌّ على دراسة تمت في كافة مخيمات الضفة الغربية، وبناءً على دراسة الحالة لهؤلاء الأشخاص بُنيت الموسيقى وكل النظريات التي عملتُ عليها، ويحمل اسم”موسيقى العقول التالفة”، وسيتم إطلاقه مع نهاية هذا العام.
استطاعت غانم أن تُقدم نفسها كفنانةٍ فلسطينيةٍ بشكلٍ رائع، وتلبي توقعات محددة، من خلال تركيزها على إبراز هويتها الخاصة في أعمالها، والتركيز على قضايا مجتمعية متنوعة كان للمرأة جزء كبير منها، وبأفكار مدروسة، خاصة بعد مشروع “منارات” الذي أنجزَته وعمدت فيه إلى فن الشارع أو ما يعرف بـ”الغرافيتي”، لما لهذا الفن من قدرةٍ على إيصال رسالةٍ معينةٍ أو مجموعة رسائل للجمهور المستهدف، مستخدمةً أساليب متنوعة للجمع بين الرموز والصور أو الكلمات، لخلق تمثيلٍ مرئيٍّ لفكرتها ورسالتها، ليبقى الفن بمختلف أشكاله وممارساته يلعب دوراً مُهمّاً في بناء الوعي وتجسيد تراكُم الخبرات الإنسانية، أمّا برهان النجاح فهو ردّ الفعل الإيجابي من الناس لما يقدمه وتفاعله الكبير وتشجيعه، وبالتأكيد يزداد جمالاً حين يحمل هذا العمل رسالة جمالية ليشكل أداتي توثيق وتعبير ليبقى مؤثراً في حركة المجتمعات ومتفاعلاً مع حياتها، خاصةً عندما يلامس الواقع ويصل به إلى مستوى ثقافي يليق به.