في فترة صباه التي قضاها في جزيرة كيوشو ثالث أكبر الجزر اليابانية، احتفظ ماسايوشي سون بدفتر دَوَّن على صفحاته الاختراعات الجديدة التي كان يأمل أن يتمكن من صنعها يوماً ما. واليوم، لدى مؤسس «سوفتبنك» الذي أتم منذ أيام عامه الستين صندوق للتكنولوجيا يقترب رأسماله من 100 مليار دولار، قد يمكنه من تحقيق حلمه ليصبح واقعاً بعد سنوات حقق خلالها نجاحات ضخمة وإخفاقات قاتلة.
وتمكن سون الذي ولد في أغسطس عام 1957 لعائلة بسيطة تنتمي إلى الجيل الثاني من الكوريين الذين يعيشون في اليابان من تحويل الشركة الصغيرة التي أسسها عام 1981 إلى تكتل يسيطر على ثالث أكبر شركة للجوال في اليابان وشركة الاتصالات الأميركية «سبرنت».
ورغم أنه واحد من أنجح رجال الأعمال في جيله فإنه لم يدخل إلى دائرة الأضواء بشكل كبير إلا عقب لقائه الرئيس دونالد ترامب بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة في نوفمبر الماضي. وفي هذا التقرير سيتم استعراض أهم المحطات وأبرز النجاحات والإخفاقات في تاريخ الرجل الذي يطلق عليه البعض اسم بيل غيتس اليابان ومعروف عنه بأنه الياباني الذي يحب الصفقات الضخمة والمجنونة.
نشأته الصعبة شكلت شخصيته
ولد سون لأسرة كورية فقيرة جداً، وكان والده يعمل صياداً. وفي ستينات القرن الماضي كان التمييز ضد المهاجرين الكوريين منتشراً جداً، حتى إن زملاءه اليابانيين كانوا يقذفونه بالحجارة في المدرسة. لكن ذلك ربما أضاف لشخصيته قدراً من الصلابة والعزم على إثبات الذات. وكان سون يمتلك بالفعل فضولاً كبيراً وطاقة تجعله لا يهدأ وهو ما يميز جميع رجال الأعمال تقريبًا. ونقطة التحول بالنسبة له كانت في لقائه مع مثله الأعلى مؤسس ماكدونالدز اليابان «دين فوجيتا» الذي نصحه بتعلم الإنكليزية والدراسة في الولايات المتحدة.
وانتقل سون إلى سان فرانسيسكو لدراسة الثانوية، قبل أن يلتحق بجامعة كاليفورنيا في بريكلي لدراسة علوم الكمبيوتر والاقتصاد. وفي غير أوقات الدراسة كان كل ما يشغل سون هو الأفكار التجارية، لدرجة أنه كان أحياناً يستأجر أحد زملائه ليحضر المحاضرات بدلاً منه إذا استدعى نشاطه التجاري ذلك.
خلال تلك الفترة، كانت كل المؤشرات تشير إلى أن هذا الشاب سيتمكن من تحقيق ثروة. وكانت بداية ذلك حين استأجر عالماً لمساعدته في بناء برنامج للترجمة الصوتية متعدد اللغات، والذي باعه لاحقاً إلى «شارب» مقابل 450 ألف دولار.
ولم يضع سون هذه الأموال التي تعتبر ضخمة بمقاييس ذلك الوقت في البنك، وإنما قام باستخدامها في شراء ألعاب روبوتية من اليابان وتأجيرها في الحرم الجامعي لبريكلي.
بداية صعبة.. وصدفة حاسمة
وعاد سون إلى اليابان في عام 1980، ويمكن للمرء أن يتخيل أن المرحلة السابقة دفعته إلى القمة فوراً. لكن هذا لم يحدث، فبعد وصوله إلى موطنه ظل 18 شهراً كل ما يفعله هو القراءة والتفكير، لدرجة أنه يشير إلى هذه المرحلة قائلاً: «لقد قدت أسرتي إلى الجنون، لكنني كنت مصراً على أن يكون المشروع القادم كبيراً». وبدأ سون في التفكير في برامج الكمبيوتر، حيث إنه لاحظ وقتها سهولة شراء الأجهزة، ولكن برامجها لم يكن يتم بيعها بشكل مؤسسي أو على نحو محترف. لذلك قرر استخدام 80 ألف دولار من مدخراته لإنشاء «سوفتبنك».
وحاول سون اللعب على وتر عدم وجود توزيع للبرمجيات، لذلك قام باستئجار مساحات في معارض الإلكترونيات الاستهلاكية ثم سمح لكبار صانعي البرمجيات في اليابان بعرض منتجاتهم في تلك المساحات.
لكن الأمور لم تمض كما تمنى سون، فلم يرغب أحد في القيام بأعمال تجارية مع «سوفتبنك». وما حدث هو أن مندوبي شركات البرمجيات الواقفين بالمساحات التي يدفع تكلفتها سون قاموا بتبادل البطاقات مع تجار التجزئة ليعقدوا صفقات مباشرة بينهم، ويصبح سون خارج اللعبة.
ولم يتمكن سون من استعادة سوى %5 من استثماره الأصلي، ورغم ذلك أكد عزمه على الاستمرار، ولكن الاحتمالات كانت ضد «سوفتبنك» بشكل واضح. وفي هذه المرحلة المتخبطة أنقذته إحدى الصدف.
واتصل به شخص من متجر يدعى «جوشين دينكي» أخبره بأنهم في حاجة إلى برمجيات، وسأله «هل يمكنك أن تأتي لطوكيو لحضور اجتماع؟ قال له سون إنه مشغول جداً. ولكن الحقيقة هي أنه لم يكن لديه في ذلك الوقت أي أموال».
ما لم يدركه سون حينها هو أن «جوشين دينكي» هو ثالث أكبر متجر للإلكترونيات المنزلية في اليابان. ولحسن حظه اتصلوا به مرة أخرى ليخبروه بأن رئيس الشركة سوف يكون في طوكيو (بالقرب من مقر «سوفتبنك») على أي حال.
الأمر يتعلق بطريقة التفكير
في الحقيقة، رتب رئيس «جوشين دينكي» هذه الرحلة عمداً فقط لرؤية سون. وذلك لأن الشركة كانت أنشأت لتوها متجراً للكمبيوتر وتحتاج بشدة إلى أكبر قدر ممكن من البرمجيات.
وتكشف المحادثة التالية جزءًا مهماً من شخصية سون وجرأته. فبدلاً من القفز فرحاً بمثل هذه الفرصة، خصوصاً أنه لم يكن في ذلك الوقت في أفضل حالاته التجارية، أخبر سون زائره بأن «جوشين دينكي» ستضطر للاستغناء عن مورديها الحاليين والتعامل حصراً مع «سوفتبنك».
«إذا كنت تريد أن تصبح أكبر تاجر كمبيوتر في اليابان، فعليك أن تجد الرجل رقم واحد في توزيع البرمجيات. وهذا الرجل هو أنا» هذه كانت كلمات سون لرئيس «جوشين دينكي».
وبشكل مثير للدهشة، نجحت الطريقة الواثقة التي تحدث بها سون في إقناع رئيس «جوشين دينكي» ليوافق على شرط سون وأُبرم اتفاق بينهما، لتتوالى بعد ذلك الصفقات مع تجار التجزئة ومصنعي البرمجيات، وترتفع إيرادات «سوفتبنك» في غضون عام من 10 آلاف دولار إلى 2.3 مليون دولار.
وبحلول عام 1984، كانت «سوفتبنك» تستحوذ على %50 من سوق التجزئة لبرامج الكومبيوتر في اليابان. ولم يمنعه هذا النجاح المذهل من البحث عن فرص أخرى.
وخلال فقاعة الإنترنت، كان سون يستثمر في حوالي 800 شركة، وتعهد في ذلك الوقت بإنشاء العصر الرقمي أو «نتباتسو» على غرار «زايباتسو» هو المصطلح الذي يشير إلى التكتلات الصناعية اليابانية الكبرى.
وارتفعت أسهم «سوفتبنك» وارتفعت معها ثروة سون لتصل إلى 70 مليار دولار تقريباً في عام 2000 ليتجاوز وقتها بيل غيتس، ويصبح أغنى رجل في العالم. ولكن مع انفجار الفقاعة ذهبت المئات من استثماراته أدراج الرياح، وانخفضت ثروته الصافية بنسبة %99. لكن وسط هذا الحطام، كان لدى سون مجموعة من الرهانات الجيدة، وهي استثماراته في «ياهو» و«علي بابا». تحول استثمار سون في مجموعة التجارة الصينية العملاقة «علي بابا» إلى أنجح الاستثمارات في تاريخ الشركات الناشئة على الإطلاق.
وتحول استثماره الأصلي بالشركة البالغ 20 مليون دولار، والذي استحوذ بموجبه على %32 منها إلى ما قيمته 90 مليار دولار في مايو الماضي، أي أنه حقق عائداً تجاوز الـ4500 مرة حجم استثماره الأصلي.
في ذلك الوقت، قدم الرئيس التنفيذي لشركة «زيف ديفيس» لـ سون شركة صغيرة تكافح لتشق طريقها تسمى «ياهو» والتي أرادت 5 ملايين دولار من أجل تطوير تكنولوجيا محركات البحث. وبدلاً من إعطائها الملايين الخمسة عرض سون على مسؤولي «ياهو» 100 مليون دولار، ليخبره مؤسس الشركة جيفري يانج بأنهم لا يحتاجون هذا الكم الكبير من المال، ولكن سون رد عليه قائلاً «الجميع يحتاج إلى 100 مليون دولار».
وهكذا امتلكت «سوفتبنك» أكثر من ثلث «ياهو» مع طرحها للاكتتاب العام في أبريل 1996.
واليوم يستعد سون لبدء مغامرته التجارية الجديدة مع صندوقه المسمى «رؤية سوفتبنك» البالغ رأسماله حتى الآن 93 مليار دولار، ويضم مجموعة من كبار المستثمرين من بينهم صندوق الاستثمارات العامة السعودي وشركات «أبل» و«كوالكوم» و«فوكسكون» و«شارب».
لكن الشيء المختلف حول استثماره الضخم الجديد هو أن أعين الجميع تراقبه وتتبع خطواته، خصوصاً أنه يخطو إلى قطاع يعتقد الكثير من المحللين أنه يعاني من تضخم رؤوس الأموال، لذلك يجب أن تكون تحركات الياباني الذي أتم عامه الستين محسوبة وبدقة شديدة. (ارقام)